مؤلف كتاب «لمع الأدلة» هو العلامة الزاهد الورع «ابن الأنباري». أبو البركات عبدالرحمن كمال الدين بن محمد الأنباري المولود في «الأنبار» سنة «513» هجرية، وهي بلدة على الضفة الشرقية للفرات، على بعد قرابة خمسة وستين كيلو متراً غربي بغداد، والتاريخ يعرفها أنها أول عاصمة لدولة بني العباس، فقد اتخذها أول خلفائهم «أبو العباس السفاح» مقراً له بعد «الحيرة» وبقيت كذلك أيام «المنصور» حتى بنى «بغداد» فانتقل إليها.
غادر «ابن الأنباري» بلده وهو صبي إلى بغداد طلباً للعلم، ثم انتظم في مدرستها المشهورة «النظامية» ولزم أئمة العلوم فيها، ثم انصرف بعد تخرجه وبعد روايته الكثير من كتب الأدب، إلى التعليم والتأليف، وقد أصدر كتابه المهم «الإنصاف في مسائل الخلاف».
والظاهر أن مزاج الشيخ «ابن الأنباري» لم يستطع الصبر طويلاً على قيد الوظيفة فآثر الحرية، وانقطع في منزله منفقاً وقته في القراءة والتأليف والعبادة، وانتشرت مؤلفاته، وكثر قصد الطلاب والعلماء منزله للاستفادة، راحلين من شتى الأقطار.
وقد آثر الشيخ الاعتزال في بيته. في «الخاتونية» شرقي «بغداد» فلا يخرج إلا يوم الجمعة، وقد ذكر المحققون أن له مئة وثلاثين مصنفاً في اللغة والأصول والزهد، وأكثرها في فنون العربية ومنها: أسرار العربية، أصول الفصول في التصوف، الأضداد، حواشي الإيضاح، ديوان اللغة، شرح الحماسة، ديوان المتنبي، شرح السبع الطوال، وظل هكذا في حياته، بين التأليف والقراءة والعبادة، إلى أن توفي سنة «577» هجرية.
يعد عصر «ابن الأنباري» المئة السادسة للهجرة، الذروة في ازدهار العلوم والآداب، والتفنن في تدريسها والتأليف فيها، بحيث لا يرى في العصور التي تلته ـ على غزارة التأليف والمؤلفين ـ إبداعاً يذكر أو عبقرية تلفت النظر إليها، وهكذا اعتبر الباحثون أن المئة السابعة للهجرة، بدء عصر الانحطاط.
وقد تفرد «ابن الأنباري» في فن التأليف، حتى ليستأثر بطابع خاص بين هذه الكثرة من المؤلفين في علوم العربية، ولعله أول العلماء الذين درس فن أصول النحو على نسق فن أصول الفقه، بحيث يبين بالأدلة والحجج ما يقوله، إضافة إلى أنه أدّب النحو، وأضفى على أسلوب عرضه من المائية والتندية ما حببه إلى المطالع، فأبعد عنه السأم.
وليس بقليل أن تعرض ما يشبه الأرقام والقضايا المنطقية عرضاً جذاباً.
وبذلك قدم لنا شيئاً متميزاً، حتى أنه لم يؤلف في موضوع مطروق، وإذا عرض للمسائل المطروقة، ابتكر لها تنسيقاً جديداً ونظرة عميقة شاكلة، ثم وضع تصميم البناء الذي تخيله، ثم حببه في قالب بديع لا نجد له نظير.
أما كتابه «لمع الأدلة» فهو كتاب في أدلة النحو والأصول التي تنوعت عنها، وقد قسمه المؤلف إلى ثلاثين فصلاً، كان الفصل الأول في معنى «أصول النحو وفائدته» حيث يقول: أصول النحو أدلة النحو التي تفرعت منها فروعه وأصوله، كما أن أصول أدلة الفقه التي تنوعت عنها جملته وتفصيله».
وكان فصله الأخير في الاستدلال.وقد قسم الباحث أدلة النحو إلى ثلاثة: نقل وقياس واستصحاب حال، ثم فصل في كل منها، فالنقل هو الكلام العربي الفصيح المنقول بالنقل الصحيح، الخارج عن حد القلة إلى حد الكثرة، فخرج عنه إذا ما جاء في كلام غير العرب.
والنقل ينقسم إلى قسمين: تواتر وآحاد، فأما التواتر فلغة القرآن الكريم وما تواتر من السنة وكلام العرب، وهذا القسم دليل قطعي من أدلة النحو يفيد العلم.
ثم يبحث في شروط النقل، فجاء في الفصل الخامس في شروط نقل المتواتر، فيقول: واعلم أن أكثر العلماء ذهبوا إلى أن شرط التواتر أن يبلغ عدد النقلة إلى حد لا يجوز فيه على مثلهم الاتفاق على الكذب، كنقلة لغة القرآن الكريم وما تواتر من السنة وكلام العرب، فإنهم انتهوا إلى حد يستحيل على مثلهم فيه الاتفاق على الكذب، وذهب قوم إلى أن شرطه أن يبلغوا سبعين..».
ثم يبحث في شرط نقل الآحاد، الذي يجب أن يكون عدلاً، رجلاً كان أو امرأة، حراً كان أم عبداً...
ومن الفصول المهمة، الفصل العاشر وهو في القياس، حيث هو في عرف العلماء عبارة عن تقدير الفرع بحكم الأصل، وهو حمل فرع على أصل بعَلة وإجراء حكم الأصل على الفرع. ولابد لكل قياس من أربعة أشياء: أصل وفرع وعلة وحكم، وذلك مثل أن تركب قياساً في الدلالة على رفع ما لم يسم فاعله، فتقول: اسم أسند الفعل إليه مقدماً عليه فوجب أن يكون مرفوعاً قياساً على الفاعل...».
وهكذا يكون النحو قد درس بطريقة جديدة مبنية على العلة والسبب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق