الجمعة، 13 يونيو 2008

دراسة أدبية لرسالة: عبد الحميد الكاتب إلى الكُتَّاب


النـص:
"أما بعد، حفظكم الله يا أهل صناعة الكتابة، وحاطكم ووفقكم وأرشدكم! فجعلكم معشر الكتاب - في أشرف الجهات - أهْلَ الأدب، والمروءةِ والعلمِ، والرواية.
فتنافسوا يا معشر الكُتَّاب في صُنوف الآداب، وتفقَّهوا في الدين، وابدؤوا بعلم كتاب الله عز وجل والفرائِض ثم العربية فإنها ثِقاف
[1][1] ألسنتكم، ثم أجيدوا الخط فإنه حِلْيةُ كُتبكم، وارووا الأشعار، واعرفوا غريبَها ومعانِيَها، وأيامَ العرب والعجم، وأحاديثَها وسِيَرَها فإن ذلك مُعينٌ لكم على ما تسموا إليه هِمَمُكم، ولا تُضَيِّعوا النظرَ في الحساب، فإنه قِوَامُ[2][2] كُتّاب الخراج. وارغبوا بأنفسكم عن المطامع سَنيها[3][3] وَدَنيَّها، وسَفْسَافِ[4][4] الأمور ومحاقِرِها، فإنها مَذَلّة للرقاب مَفْسَدَة للكُتَّاب، ونزهوا صناعتكم عن الدناءات، واربؤوا بأنفسكم[5][5] عن السِّعاية والنميمة وما فيه أهل الجهالات، وإياكم والكِبْرَ والصَّلفَ[6][6] والعَظَمَةَ، فإنها عداوة مجتلَبَةٌ من غير إِحْنَة[7][7]، وتحابُّوا في الله عز وجل في صناعتِكم، وتواصوا عليها بالذي هو أليقُ بأهل الفضل والعدلِ والنُّبْل من سلَفِكم.
تولانا الله وإياكم يا معشرَ الطلبةِ والكتبةِ بما يتولى به مَنْ سبقَ علمهُ بإسعادِه وإرشاده، فإن ذلك إليه وبيده، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
[8][8]".
1- صاحب النـص:
هو عبد الحميد بن يحيى بن سعد العامري بالولاء، من أشهر الكتاب في آخر العصر الأموي؛ فقد طور الرسائل بكثرة التحميدات في صدر الرسالة، وبالتوسع في المعاني، والعناية بترتيبها ووضوحها. اشتغل في دواوين الخلفاء حتى أصبح المقدم عند مروان بن محمد، ولما قوي أمر العباسيين هرب مع مروان إلى مصر حيث قتل في بوصير سنة 132 هـ.
2- تقسيم النـص:
(أ) مقدمة: تبدأ بـ(أما بعد) وتنتهي بـ(والرواية) وتشتمل على الدعوة بالتوفيق للكتاب وبيان منزلتهم.
(ب) عُدَّة الكاتب: وهي إرشادات ونصائح وتعاليم للكتاب، وهي لب الرسالة وصميمها وتبدأ بقوله: (فتنافسوا يا معشر الكتاب) وتنتهي بـ(والنبل من سلفكم).
(ج) خاتمة: تبدأ بقوله (تولانا الله) وتنتهي بـ(والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته) وهي دعاء للكتاب برعاية الله لهم. ثم سلام يشعر بانتهاء الرسالة.
3- دراسة الأفكـار:
لم يعرف الكُتَّاب رسالة نهجت نهج رسالة عبد الحميد في أفكارها بحيث وجهها إلى فئة من الناس هم الكتاب، وعلى هذا فإن الفكرة جديدة، وإن كانت النصائح الموجودة تصلح للكتاب وغيرهم إلا ما قل من تلك الإِرشادات.
والأفكار تشتمل على صدق صاحبها وإخلاصه فيما يقول، والدليل على ذلك أن هذه الأفكار عندما تطبق على الواقع تكون حقائق ملموسة، لأفكار عبد الحميد إذن أفكار متطورة تسابق الزمن الذي قيلت فيه، فالكتاب تسابقوا إلى حفظها، بل إنها أثرت في كثير من الناس فأخذوا يكتبونها ويتدارسونها. وأما تنظيم الأفكار وترتيبها فهو أمر ملموس؛ فالرسالة تتكون من ثلاثة أجزاء:
1- مقدمة. 2- عرض. 3- خاتمة.
والعرض وهو لب الرسالة تدرجت فيه الأفكار تدرجاً ينقل الفائدة إلى القارئ والمستمع بسهولة، فالكاتب أمر الكتاب بالتفقه في الدين والنظر في كتاب الله ثم إتقان اللغة العربية، وانتقل بعد ذلك إلى إجادة الخط، وبعد ذلك أمرهم بالاطلاع على التاريخ والأيام والاستفادة من الشعر، ولفت الكتاب إلى تعلم الحساب. هذا القسم هو الفكرة الرئيسة التي تُعدُّ الكاتب للكتابة، ثم خصص القسم الثاني من العرض للنصائح حيث أرشد الكتاب إلى الصفات السامية والصفات الدنيئة، فأمرهم بالتحلي بالصفات السامية والابتعاد عن الصفات الدنيئة. ومن خلال هذا العرض لأفكار الكاتب يتضح لنا أنها أفكار تشملها وحدة تامة تربط جميع أجزائها في إطار واحد، وهي بعد ذلك أفكار واضحة بعيدة عن اللبس والغموض.
4- دراسة الأسـلوب:
أسلوب عبد الحميد في رسالته أسلوب متطور حسن الصياغة؛ فألفاظه خالية من الغريب، وأما شرحنا لبعض الكلمات فمن باب تقريبها للمبتدئ. وتراكيب الرسالة متماسكة الألفاظ متآلفة فيما بينها، ليس فيها تعقيد يمنع من فهم المعنى، وهي خالية من الحشو والابتذال، ويظهر في أسلوب الكاتب الترادف، فهو يجمع عدداً من الكلمات لمعان متقاربة مثل: (وحاطكم ووفقكم وأرشدكم) وقوله: (أهل الأدب والمروءة والعلم) والترادف ناتج عن تطويل الرسائل، فالترادف في الأسلوب وتفتيق المعاني في الأفكار يرجعان إلى طول الرسالة.
وظاهرة أخرى في أسلوب هذه الرسالة وهي كثرة استخدام حروف العطف، وهذا الأمر وإن لم يكن مستحسناً إلا أن حاجة الأفكار إلى هذه الحروف جعلتها مقبولة. وقد استخدم الكاتب السجع كقوله: (فتنافسوا يا معشر الكتاب في صنوف الآداب) وقوله: (فإنها مذلة للرقاب مفسدة للكتاب) ولكن الكاتب لم يكثر منه فجاء مناسباً وخفيفاً على السمع، ومما نلاحظه في الأسلوب تنويع العبارة ما بين دعاء وأمر وتحذير.
وقد أحسن الكاتب عرض أسلوبه فبدأ المقدمة بـ(أما بعد) وضمنها الدعاء، وعندما انتقل إلى العرض غير أسلوبه من الدعاء إلى الأمر حيث بدأ بقوله (فتنافسوا) ثم عاد إلى الدعاء في الخاتمة حيث قال: (تولانا الله إياكم) وكما أنه أحسن الابتداء فقد وفق في ختم رسالته حيث ختمها بالدعاء والسلام.
ويتضح لنا من خلال هذه الدراسة لأسلوب عبد الحميد الكاتب أنه طور أسلوب الرسالة وجعله يتقدم إلى الأمام، ولا نغالي إذا قلنا إن نهضة التأليف في العصر العباسي استفادت كثيراً من أسلوب عبد الحميد.









هناك تعليقان (2):

Sk Md Raihan يقول...

رائع جدا، شكرا لك لهذا الBlog

Unknown يقول...

استفدت كثيرا جزاكم الله خيرا